مفتاح الكنز
بقلم/ فرحات جنيدى- مصر
قصة
تزاحمت الذكريات في رأس جدتي فجلست على الأرض وأمرتني بالجلوس بجوارها فجلست ، فوضعت يدها على رأسى وداعبت بأصابعها خصلات شعري ودعت لي فمددت جسدي على الارض وأرحت رأسي في حجرها كما كنت أفعل وأنا صغير .
صمتت لحظات ثم تنهدت وقالت : لقد اقترب القلب من الانهيار واليوم أود أن أروي لك سرًا خفيًا , فابتسمت وقلت : فى بئر عميق يا جدتي .
فقالت : ذات ليلة عاد جدك من جلسته المعتادة مع إخوته محملا بهمٍ كبير أحني قامته الطويلة ، وغضبٍ ملأ وجهه فحرق ابتسامته المرتسمة دومًا على شفتيه ، فعرفت يومها أنه قد اختلف مع إخوته لأنهم يريدون تقسيم الأرض بينهم .
كان الأمر صعب جدًا عليه خاصة أنه هو الذي كان يقف مفتخرًا بين الناس وهو يشير إلى أرضه ويقول : هذه الأرض لجدي الأكبر , حافظنا عليها وكبّرناها وأصلحنا ما كان منها بورًا ، وتلك الأرض حصلتُ عليها أنا والتي هناك فى الجانب الشرقي اتحدنا أنا وإخوتي فيها وبسببها عشنا الحرمان سبع سنوات حتى أصبحت حرة لا ينازعنا أحد فيها ، وتلك التي على الأطراف كانت أرضًا بورًا فعمرناها فتنازعنا عليها مع ثلاث عائلات وحملنا السلاح وحميناها واستشهد أبي من أجلها .
لقد ظل جدك يفتخر باتساع أرضه والخير الذي يصب في بيتنا كماء النهر وكنت أنا أبتسم بفخر وأنا أقف وسط زوجات أبنائي وهن يستقبلن محصول القمح والقطن والذرة وغيرهم ، ومنذ ذلك اليوم المشؤوم لم يعد ذاك زوجي الذي أعرفه ووجهه الباسم ارتسم عليه حزن قاتم لم يغادره .
وفي يومٍ عاد فيه متأخرًا فنظرت في وجهه فوجدته حزينًا والدموع تقف عند طرف أجفانه ، فسألته عما يحزنه فعرفت ويا ليتنى ما عرفت لقد أخذ أحد إخوته نصيبه من الأرض وانفصل بها ووضع بينه وبين إخوته حدًا فاصلا .
وفي تلك الليلة مكث جدك طويلاً فوق سطح البيت ينظر إلى الأرض في ظلمة الليل ، ثمَّ ترك سطح البيت واتجه إلى الخارج وجلس في مكانه المعتاد أسفل شجرة التوت على حافة النهر وأعطى ظهره للنهر ووجهه للبيت فنظرت إليه فوجدته حزينًا والدموع تنهمر من عينيه , وكان ينظر للبيت نظرة مودع ويبكي بكاء المفارق بلا عودة ، شعر بوجودي فأمرني أن ألتزم غرفتي وأدار ظهره للبيت ومضى يشعل سيجارة وراء سيجارة بينما كانت عيناه يملأهما الحزن والغضب مما جعلني استمر في مراقبته ، وفجأة اختفى من أمام عيني فظننت أنه نهض ليعود إلى البيت أو يحرك جسده قليلا فانتظرت عودته خلف الباب لكن الانتظار طال حتى أشرقت الشمس فخرجت أنا وأبنائي نبحث عنه عند إخوته وأصدقائه فلم نجده وجاء الليل فشعرنا بالخوف عليه أن يكون قد سقط في النهر فبحثنا عليه والقلوب تتمزق من الحزن والقلق .
مضى اليوم ومن بعده أيام ولم يعد جدك وبعد أربعين يومًا عاد فكان كالعائد من الموت , قاطعت جدتي وقلت بلهفة : وأين كان ؟
فقالت جدتي : لقد قبض عليه حراس النهر وسجنوه سبع ليالي قبل أن يعرضوه على كبيرهم قاضي قضاة النهر وعندما عرضوه عليه سأله أي خطأ ارتكبت أيها الفلاح ؟
فقال جدك : أنا لم أرتكب خطأ .
فقال القاضي : هل سرقت ؟ أم سلبت الآخرين ممتلكاتهم بالإكراه ؟
فقال جدك : أنا لم أسرق الذهب أو الطعام ولم أسلب ممتلكات الناس .
فقال القاضي : إياك أن تكون كذابًا .
فقال جدك : أنا لا أكذب ولم ألعن ولم أغلق أذناي عن سماع كلمات الحق و لم أتسبب فى إيذاء مشاعر الآخرين , ولم أعتدْ على أحد ولم أغش أحدًا , أنا فلاح أزرع الأرض وأَكل من خيرها وأطعم المسكين وعابر السبيل وللطير وللإبل والبعير نصيبًا من خير أرضي .
فقال القاضي : هل اغتصبت أرض الغير ؟
فقال جدك : أنا لم أغتصب أرض أحد و لم أتنصت على أحد ولم ألفق تهمة لأحد .
وقف القاضي وقال : والله إني محتارٌ في أمرك إن كنت لم تقم بإرهاب أحد ولم تخالف القانون ولم تقتل أو تهدد السلام , ولم تتمادى في الغضب ضد الفقراء والضعفاء ولم تتصرف بدون تفكير ولم تتدخل فيما لا يعنيك فلماذا قبضوا عليك ؟ وبأي ذنب حبسوك سبعة أيام ؟
صرخ جدك وقال : أنا لم أفعل الشر .
قال القاضي : احضروا من قبضوا عليه ، فتقدم الحرس وقال أحدهم : أمرك سيدى القاضي .
فقال القاضي : يُسجن سبعة أيام بلا ماء ولا وطعام مَن نبش القبور وأساء إلى الموتى وهذا الفلاح لم يفعل ذلك فلما قبضتم عليه ؟
فقال أحدهم : لقد ضُبط وهو يلوث ماء النهر يا مولاي .
صمت الجميع وغضب القاضي وأمر بحبسه ثلاثون عامًا وجلده سبعين جلدة كل يوم .
فنهضت مفزوعًا وقلت : مَن هؤلاء ؟ وكيف يفعلون كل هذا في جدي بمجرد أنه في لحظات حزن وغضب فألقي بأي شئ في النيل ؟!
فقالت جدتي : لقد كان أجدادك يقدّسون النهر فهو الذي جمعهم في مجتمع واحد بعد أن كانوا متفرقين في الواحات والسواحل والصحاري ، وكان له أناشيد يرددونها في الاحتفالات بالفيضان , وكان النهر عندهم يحدد الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها المواطن فمن يشرب من النهر الخالد غير من يشرب من الآبار والعيون ، وليس هذا فحسب بل اعتبر أجدادك أن المصري يحصل على جنسيته المصرية بمجرد شربه من ماء النهر ، وبناءًا على ما نُقل عن الأجداد فإن حدود دولة مصر ممتدة لكل الأراضي التي يشرب أهلها من ماء النهر .
قاطعتها وقلت : لكنه عقاب صعب .
فقالت : بل عقاب سهل وبه رحمة عن الماضي فلقد كانت عقوبة الاستهانة بالنهر تصل إلى حرمان مرتكبها فورًا من النعيم .
فقلت لها : لكن كيف خرج بعد أربعين يومًا فقط ؟
قالت جدتي : لقد تدخل قاضي قضاة الأرض وطلب له العفو والرحمة لأنه كان في لحظات حزن على الأرض التي يحبها وأعطاها كل عمره فقبل قاضي النهر وعفا عنه , وفي عودته أمر قاضي النهر أن يعود لبيته وخلفه مئة جندى محملين بالهدايا تعويضًا عما ناله من عقاب وكذلك فعل قاضي الأرض فامتلأ البيت بالذهب .
انتفضت عن حجر جدتي وقلت : وأين هو هذا الذهب ؟
ابتسمت جدتي وقالت : الذهب هناك في الأرض .
فقلت : كيف نصل إليه ؟
قالت : لا أعرف .
قلت : أرضنا واسعة .
قالت : والكنز فيها .
قلت : ألم يترك معك دليل أو خريطة أو أي شئ يدلنا على طريق نخرج به الذهب ؟
قالت : ترك لكم المفتاح يا ولدي ثم مدّت يدها وأمسكت بفأس جدي .