على باب مريم
قصة قصيرة بقلم فرحات جنيدي
ضم الجبل جناحيه فاختبأ في حضنه كل ذي ناب ومخلب ,وهرول الناس يختبئون فى بيوتهم المصطفة أسفل الجبل , بينما ظلت مريم جالسة على عتبة الباب الكبير غير مهتمة بالليل الذى كسا ظلامه القرية ولا بالرياح التى حملت الأتربة وتلاعبت بأشجار النخيل . وقفتُ بدراجتي أتأملها, وعلامات التعجب والاستفهام ترتسم أمام وجهى بما سمعت من حكايات عنها, لكن صوت الرياح زرع في قلبى الخوف من أن تسقط علىّ إحدى الأشجار أو ينهار أحد جدران البيوت القديمة المتآكلة والتى تصدعت من قوة الرياح , اخترق صمتى وأزال خوفى صوت الشيخ العجوز خادم ضريح الشيخ النجار الذى يتوسط شارع البوابة الطويل أقدم شوارع مدينة الغنايم بأسيوط الذى يحمل على جانبيه العشرات من البيوت , عاود الشيخ نداءه طالبًا منى أن أستريح حتى تهدأ الرياح, لكنى شكرته وامتطيت دراجتى وأسرعت إلى بيتى وصورتها لم تفارقني .
كانت مريم نحيفة الجسم , قليلة اللحم , صفراء الوجه , تضحك من غير عجب وتبكي من غير سبب , حكى أهل القرية آلاف الحكايات عن علاقتها بالجن والساحرات وجنودها من العفاريت الذين يعذبون أى شخص تغضب عليه , لم أصدق كل ما قيل عنها ودائمًا ما يراودني سؤال عن السبب الذى جعلها هكذا بالرغم من ثرائها فهى تملك الكثير من الماشية والطيور , يقوم على رعايتهم زوجها في بيت كبير ذى طراز فريد يقف في منتصف الشارع بين ضريح الشيخ النجار وقصر المقدس نان أول سكان الشارع , وكان للقصر باب كبير تحيطه حديقة كبيرة لم يبقَ منها سوى ثلاثة من أشجار النخيل بالقرب من الباب الكبير بعد أن اقتلع الورثة كل أشجار الحديقة وزرعوا بيوتاً من الأسمنت ليسكنوها , وبجوار ضريح الشيخ النجار كانت الأرض مشاع فبنى الفقراء من المسلمين والنصارى بيوتاً صغيرة عليها حتى أصبح أطول شارع في القرية .
أفكار كثيرة كانت دائمًا تدعو فضولى للاقتراب منها والتحدث معها وأن أفتش في أسرارها وأعرف أصل حكايتها ولكن كلما مررت أمامها أسمعها تدعو علي زوجها بالليل والنهار , لسانها حرباء وأنفها في السماء , كلامها وعيد وصوتها شديد , وكلما حاولت أن انتزع معلومة من سكان الشارع غير الأساطير والخرافات التى تقال عنها أجدهم يقولون أنها كانت امرأة جميلة من بعيد مليحة من قريب شريفة في قومها ذليلة في نفسها , ملساء القدمين ناعمة الساقين ضخمة الركبتين ناهدة الثديين حمراء الخدين كحلاء العينين لكن وقع عليها سحر فهى لا تنجب , حاولت كثيرًا وذهبت إلى كل الأطباء والعرافين لكن لا أمل فطلبت الطلاق لكن المبادئ المسيحية تنظر للزواج على أنه علاقة أبدية لذلك من الصعب الحصول على الطلاق نظرًا لكون الزواج عقدًا غير منحل . كانت حزينة عليه وكان هو كلما نظر إليها لعنها وهجر فراشها فأصبحت منبوذة تستقبل صباحها بسيل من الشتائم من أم زوجها وإخوته والضرب على وجهها في الليل من زوجها , وفى أحد الليالي ضربها زوجها وألقاها خارج البيت ومن يومها وهى لا تفارق الجلوس بجوار بوابة نان وأصبحت دائمة الغضب والصراخ , تكره وتحقد على الجميع وتدفن الحسنات وتفشي السيئات , تعين الزمان علي زوجها ليس في قلبها عليه رحمة , إن دخل خرجت وإن خرج دخلت وإن ضحك بكت وإن بكي ضحكت وبيتها مزبول إذا تكلمت تشير بالأصابع وتبكي في المجامع .
تدور برأسي آلاف الأفكار تدعوني إلى الخروج ومراقبة ما تفعله مريم في يوم ريح كهذا , تحركت بالدراجة إلى الخارج وأنا أقاوم الخوف واستمد روح الشجاعة فلا شيء في هذه الحياة ينبغي أن نخاف منه بل ينبغي أن نستوعبه وندركه ونتفهمه فلقد حان الوقت ليزداد فهمنا لحقيقة الأشياء لكى يقل خوفنا . تقدمت بدراجتي إلى الأمام متحديًا الرياح والأتربة ومتجاهلاً الخوف الذى يحاول أن يتسلل إلى نفسى وما أن وصلت ضريح الشيخ النجار حتى هطلت الأمطار وضرب الرعد والبرق السماء فوقفت أحتمى بالضريح وألتقط أنفاسي وأنا أنظر إليها وهى جالسة غير مهتمة بما يحدث حولها , تحركت خطوات حتى أصبحت على مقربة منها وأنا أتساءل ما هو الشيء الذى صنع منها امرأة جبارة وطاغية .
هبت نسمات الشجاعة في قلبى مع ارتفاع صوت المؤذن معلنًا عن صلاة الفجر فاقتربت منها أكثر حتى أصبحت على بعد خطوات منها وأنا أنظر إليها وعقلي يرسل إشارات التحذير من أن يصدر منها فعل غير متوقع , اقتربت خطوة فلم يحدث شيئا فتشجعت واقتربت أكثر حتى أصبح بيني وبينها ذراع فرفعت عينيها نحوى بشيء من الرضا فابتسمتُ ومددت يدى أصافحها وقبل أن تلتقى الأيادي ارتفع عواء الكلاب وهزني صوت صرخات خادم الضريح وهو يستغيث من الذئب الذى هاجم المصلين أثناء خروجهم من المسجد الصغير المجاور للضريح فنهضت وهى تصرخ بشدة وعيناها تعلن عن غضب شديد . استيقظ الأهالى وامتلأ الشارع بالشباب والنساء يطاردن الذئب بينما هى ما زالت واقفة مكانها , أسرعت واختبأت خلف باب مريم وأنا اختلس النظر إليها .
اقترب الذئب منها وهى صامدة غاضبة تصرخ بعنف وعيناها تنهمر منها الدموع وقبل أن يهاجمها سقط الذئب على الأرض فانهال عليه الشباب بالضرب حتى لفظ أنفاسه فاقتربت منهم وهى تصرخ وخطفت فأس أحدهم ورفعته إلى أعلى وصرخت فيهم فابتعدوا عنها فأمسكت بالذئب وسحبته إلى الداخل وأغلقت الباب وعيناها نحو السماء وصوتها المذبوح ما زال يصرخ فأسرعت واختبأت خلف أشجار النخيل حتى لا تراني . اقتربت من الذئب وألقت بالفأس ومزقت ثوبها حتى أصبحت عارية ومضت تخطو عليه وعيناها معلقة نحو السماء ولم تهتم لصرخات الشباب والنساء خلف الباب وظلت هكذا حتى فرد الجبل جناحيه وتسللت سهام الشمس الدافئة وملأت المكان فسقطت على الأرض ففتح أحد الأبواب وخرجت امرأة عجوز وعلى وجهها علامات السعادة وجلست بجوارها وحملت رأسها ووضعتها على قدميها وهى تمسح بيدها على وجه مريم وتغنى بصوت دافئ الآن تنبت الأرض بالزهور .