سيد الجمل يكتب: “أسرى الاشعارات” البحث عن الدفء في عالم بارد

دخلت مقهى مكتظاً بالزبائن في مدينة طنطا ، توقعت أن أسمع ضجيج الأحاديث، وضحكات الأصدقاء، وجدالاً حول الانتخابات البرلمانية أو الرياضة . لكنى بدلاً من ذلك، اصطدمت بجدار من الصمت المطبق، لا يقطعه سوى صوت رنين الإشعارات المتواصل. عشرات الأشخاص يجلسون معاً، لكن رؤوسهم جميعاً منحنية بزاوية 45 درجة، وعيونهم مسمرة على مستطيلات مضيئة صغيرة، وأصابعهم تتحرك بآلية مفرطة. هذا المشهد لم يعد خيالاً علمياً، بل هو واقعنا اليومي الذي نعيشه ونشارك في صنعه. أصبحنا جميعا آلة رقمية أو بوصف أدق “إنسان رقمي” .
قديما كما نسمع عن مصطلح ” أسرى حرب ” وهم من يدافعون عن شرف الوطن بإستماته إلى أن يقعوا أسرى فى يد العدو ، أما الآن اختلف الوضع تماما بل والمسمى فأصبحنا جميعاً “أسرى الأشعارات ” ننتظر من حين لآخر إشعارا لتريند أو تفاهه أو فيديو ساقط ليغمس أخلاقنا فى الوحل أكثر فأكثر ، ارجوا المعذرة فى حدة كلامى لان الواقع أصبح مريراً كل يوم يزداد سوء ، بلطجة ، قتل ، سرقة، أغتصاب ، اكل أموال الناس بالباطل والكثير من الأفعال المشينه التى نراها يوميا .
لقد وعدتنا التكنولوجيا بأن تجعل العالم قرية صغيرة، وأن تقرب المسافات، والحقيقة أنها أوفت بوعدها تقنياً، لكنها نكثت به إنسانياً. لقد أصبحنا بالفعل متصلين بشبكات الواي فاي، ومنفصلين عن شبكة المشاعر الإنسانية الحقيقية. بتنا نعرف ماذا أكل صديقنا الذي يعيش في قارة أخرى عبر “الستوري”، لكننا نجهل الحزن الذي يكسو ملامح شقيقنا الذي يجلس بجوارنا على الأريكة ، وجارنا المحتاج للمساعدة دون أن يطرق بابا من شدة الحياء .
إن “الإنسان الرقمي” يعيش أزمة وجودية حقيقية؛ فهو لا يعيش اللحظة، بل يوثقها. متعة السفر لم تعد في المشاهدة والاستمتاع بالمناظر الطبيعية ، بل في التصوير. ولذة الطعام لم تعد في التذوق، بل في تعدد الاسماء . لقد تحولت حياتنا إلى واجهة عرض ننتقي منها أجمل اللحظات لنعرضها للآخرين، بحثاً عن جرعة “دوبامين” سريعة تأتينا على شكل أيموشن أعجبنى أو تعليق ، لنغطي بها شعوراً دفيناً بالفراغ والوحدة .
والمفارقة الكبرى تكمن في أننا أصبحنا نخشى الصمت والعزلة. في الماضي، كانت لحظات الانتظار أو الجلوس وحيداً فرصة للتأمل ومراجعة النفس. أما اليوم، فأي ثانية فراغ تعني فوراً إخراج الهاتف والهروب إلى العالم الافتراضي. لقد فقدنا القدرة على مواجهة أفكارنا، وأصبحنا “أسرى الإشعارات”، نعيش في حالة تأهب دائم وتوتر عصبي خوفاً من أن يفوتنا خبر تافه أو “ترند” زائل، والمضحك المبكى أن جميع الاخبار لا تدعوا إلى التفاؤل بل تزيد أنفسنا خوفا وحسرة على ما زرعناه وجنيناه بأيدينا .
إننا لا ندعو هنا إلى تحطيم الهواتف والعودة للعصر الحجري، فالتكنولوجيا نعمة سهلت حياتنا ومعرفتنا. لكننا ندعو إلى “أنسنة” تعاملنا معها. فنحن كبشر قد وهبنا الله تسخير كل شئ لنا لكننا عكسنا الآية وأصبحت التكنولوجيا هى المتحكمة فينا بل وأصبحنا مدمنين رقميا ، المشكلة ليست في الأداة، بل في السيد الذى يدير الأداة ، التكنولوجيا خادم ممتاز، لكنها سيد مستبد إذا سلمناها زمام عقولنا وأوقاتنا.
نحن بحاجة ماسة لاستعادة “أدب الحضور”. أن نضع الهاتف مقلوباً حين نتحدث مع أمهاتنا وآبائنا وكبار السن ، أن ننظر في عيون أصدقائنا بدلاً من شاشاتنا ، أن نستعيد دفء المصافحة وحرارة الكلمة المنطوقة التي لا تعوضها آلاف الرموز التعبيرية الباردة، بالأمس القريب وجدنا شيخاً كبيراً يجلس فى مترو الانفاق وأمامه فتاة لم تحترم شيبة الشعر ووضعت “رجل على رجل ” فى وجه ذلك الشيخ ، ومن الواضح أنه بحميته وتربيته الأخلاقية على ألاحترام والأصول لم يستطع السكوت وأعلنها صريحة لا لقلة الادب التى أكتسبناها من الهواتف وضربنا بالأصول عرض الحائط ونعم للاحترام الذى ضاع وسط زحام الهواتف .
خلاصة القول، لنتذكر دائماً أن الحياة الحقيقية تحدث هنا والآن، بعيداً عن الشاشات. فلا تدع عمرك يمر وأنت تحدق في الضوء الأزرق، لكي لا تكتشف متأخراً أنك كنت “أونلاين” مع العالم، ولكنك “أوفلاين” مع نفسك ومع من تحب ، حان الوقت لنرفع رؤوسنا من الشاشات لنرى بعضنا البعض، قبل أن ننسى كيف تبدو ملامحنا الحقيقية بلا فلاتر .”



