شريف الريس يكتب: صوت الحق انتصر

بعد مرور عامين على حرب الإبادة التي ارتكبها الكيان الصهيوني في قطاع غزة، لا يزال صوت الحقيقة يتردد، ولكنه صدى مُخضَّب بالدماء. في هذه الملحمة، لم يكن المدنيون وحدهم هدفًا، بل كان لـ الصحفيين والإعلاميين الفلسطينيين نصيب الأسد من التضحية. أكثر من 150 شهيدًا قضوا أثناء أداء واجبهم المهني في تغطية جرائم الاحتلال، ليتحولوا من شهود على الجريمة إلى شهود عيان في سجل التاريخ.

إن الرقم 150 ليس مجرد إحصائية في تقرير دولي؛ إنه يمثل خطوط دفاع مُتهدَّمة عن الحقيقة. كل صحفي سقط كان عينًا للعالم أُغلقت قسرًا، ولسانًا للحقيقة قُطع بدم بارد. استهدافهم المُمنهج لم يكن خطأً عسكريًا، بل كان استراتيجية واضحة لـ إخفاء الأدلة وإسكات الرواية الفلسطينية. لقد أدرك الكيان أن الكاميرا والمايكروفون أقوى من آلات القتل عندما يتعلق الأمر بتشكيل الوعي العالمي.

الصحافة ليست مهنة بل قضية وجودية

في غزة، تجاوزت الصحافة دورها التقليدي؛ إنها ليست مجرد نقل خبر، بل هي فعل مقاومة، وعملية إنقاذ للذاكرة الجمعية. الصحفي الغزي لا يغادر بيته خائفًا على سلامته الشخصية، بل يحمل الخطر معه ليحميه ويحول صور الموت إلى حجة دامغة ضد القاتل. يصور وهو يُصاب، ويُسجِّل وهو تحت القصف، ويستمر في البث حتى اللحظة الأخيرة، مُجسِّدًا بذلك المعنى الأعمق لرسالة الصحافة: الحقيقة أولًا، ولو كان الثمن الحياة.

هذا الاستماتة في تغطية الجرائم أكدت أن الصحفي الفلسطيني فدائي الحقيقة بامتياز. لقد قاموا بما لم يستطع القيام به إعلام العالم الحر بأكمله، حيث واجهوا آلة القتل ليس بأسلحة، بل بشارة “PRESS” زرقاء، وهي إشارة لم تُوفّر لهم أي حماية دولية، بل ربما جعلتهم هدفًا أوضح.

إرث الشهداء وتحدي الصمت

على الرغم من الثمن الباهظ، لم تنجح آلة الحرب في قتل الحقيقة. فكل صورة بثها هؤلاء الشهداء، وكل تقرير سجلوه، أصبح وثيقة إدانة خالدة تنتقل عبر الأجيال والمنصات. إرثهم هو التزام مقدس يقع على عاتق كل صحفي وإعلامي حول العالم: أن يرفض المساومة على الصدق، وأن يظل منحازًا للضحية والعدل، حتى لو كان صوت الحقيقة نشازًا وسط ضجيج التضليل.

إن الحرب على غزة لم تكن حربًا تقليدية، بل كانت حربًا على الوعي والرواية. والانتصار فيها ليس بالضرورة عسكريًا، بل هو انتصار للحقيقة المُجرّدة على محاولات طمسها وتشويهها. هؤلاء الصحفيون الـ 150 سقطوا، لكنهم تركوا وراءهم ترسانة من الحقائق التي لا يمكن محوها.

إن واجبنا اليوم، بعد عامين، ليس فقط تذكُّرهم وتكريم تضحياتهم، بل هو الاستثمار في إرثهم، من خلال مواصلة رفع صوت الحقيقة عاليًا، والإصرار على محاسبة مرتكبي الجرائم، فـ الحق أبقى من الجميع، وسيبقى خالدًا ما دام هناك صحفي مستعد لحمله على كاهله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى