من المهمَل إلى المُلْهِم: رحلة أطفال أصيلة بين الفخامة والكرامة

محمد طه الريسولي. المغرب / الجالية العربية

في صباح الخميس الرابع والعشرين من يوليوز 2025، تجمع أطفال مدينة أصيلة في حديقة محمد عابد الجابري وهم يحملون بين طيات ملابسهم وأكياسهم الصغيرة أحلاماً كبيرة وانتظارات أكبر. محمد تهامي يصف تلك اللحظات الأولى بقوله: “كان صباحًا مختلفاً، صباح فيه شعور بالأمل والتجدد. التقينا في حديقة محمد عابد الجابري حوالي الساعة 11:50، وركبنا الحافلة بعد وصول أستاذنا”. كانت الحافلة التي اعتادوا ركوبها إلى المدرسة تتحول فجأة إلى وسيلة نقل نحو عالم جديد مختلف تماماً عما ألفوه في مدينتهم الصغيرة.

الوجهة الأولى كانت مقر جهة طنجة تطوان الحسيمة، حيث قضوا وقتاً في الانتظار تحت أشعة الشمس الحارقة قبل أن يستقبلهم المنظمون. محمد أمين الشريكي يتذكر تلك اللحظات فيقول: “كنا أول من وصل، وانتظرنا طويلاً خارج المبنى. لكن اللقاء كان غنيًا… استقبلتنا الأستاذة خديجة بكة، وتحدثنا عن الاقتصاد الأخضر”. داخل القاعة الكبيرة، دار حوار تفاعلي حول مفاهيم الاستدامة والاقتصاد الأخضر، حيث أبدى كل طفل رأيه ورؤيته لكيفية حماية البيئة، من إعادة التدوير… إلى التشجير وحماية الحيوانات…

ثم كانت المحطة التالية عند فندق هيلتون الفاخر، حيث واجه الأطفال صدمة ثقافية جميلة. زينب الكميلي تصف مشاعرها عند الوصول: “استقبلنا طاقم الفندق بحفاوة، وجعلتنا الأزهار والنوافير نشعر كأننا في لوحة حية… ثم انتقلنا إلى قاعة خاصة حيث التقينا أصغر سفيرة إماراتية”. اللقاء مع السفيرة الصغيرة كان لحظة فارقة، حيث استمع الأطفال إلى كلماتها الملهمة عن دور الشباب في بناء مستقبل أكثر استدامة.

تحولت إحدى قاعات الفندق إلى ورشة فنية كبيرة، حيث وُزعت جذوع سعفات النخل وأدوات الرسم على الأطفال. ملاك العدلاني تروي تجربتها: “كأننا وسط لوحة فنية، رسمنا على جذوع سعفات النخل وكتبنا أمنياتنا للتنمية المستدامة. تمنيت أن نزرع نخيلًا حقيقيًا في حيّنا”. وفعلاً، بعد الرسم، جاء نشاط خاص لكتابة الأمنيات.

أُعطيت لكل طفل ورقة صغيرة وُطلب منه أن يكتب فيها حلمه لمستقبل البيئة. كان الجو ساكنًا، لكن الكلمات المنبعثة من أعماق الطفولة كانت قوية ومؤثرة. تقول رحاب بونجوم: “وفي نهاية هذه الرحلة، اجتمعنا جميعًا لنكتب أمنياتنا للتنمية المستدامة، كلمات بسيطة لكنها كانت كالشموع، تضيء الأمل في غدٍ أجمل، مليء بالسلام والازدهار.”.

كانت الأوراق تمتلئ بأمنيات صادقة: شوارع نظيفة، حدائق أكثر، مدن خضراء، مدارس صديقة للبيئة، وحق للأطفال في العيش في كرامة ضمن بيئة سليمة. تقول نور إسلام لوكي: “كتبت أنني أتمنى أن نزرع شجرة مقابل كل طفل يولد، حتى ينمو الطفل والشجرة معًا”.

لكن الألوان الزاهية والضحكات البريئة ما لبثت أن تراجعت أمام الجوع والتعب، خاصة مع غياب وجبة غذاء كافية.

توبة بوق تروي المعاناة الخفية: “لم يُقدَّم لنا أي غداء. الجوع كان ينخر أجسادنا في صمت، والمؤطرون منشغلون بالتصوير. بعض الأطفال فقدوا وعيهم”. كانت المفارقة صارخة بين فخامة المكان والترتيبات من جهة، وإهمال الحاجات الأساسية للأطفال من جهة أخرى. قطع البسكويت والمشروبات الخفيفة التي قدموها لم تكن كافية لتعويض الطاقة التي بذلوها طوال اليوم.

في طريق العودة إلى أصيلة، كانت الأجواء في الحافلة مختلفة تماماً عن جو المرح الذي ميز الرحلة الصباحية. غفران بوق تختزل التجربة بقولها: “تعلمنا أن الكرامة لا تُقاس بالفنادق الفاخرة بل بتوفير وجبة تحترم جسد الطفل…”. بينما يضيف محمد أمين الشريكي رؤيته: “الورشة لم تثر معرفتي فقط، بل غيرت نظرتي إلى الحياة… أشكر أستاذي مصطفى البعليش لأنه جعلني أؤمن أن الطفل ليس فقط من يسمع التعليمات، بل من يسأل ويقترح”.

هذه الرحلة التي بدأت بأحلام كبيرة ووعود جميلة، تحولت إلى درس عميق في معنى الكرامة والإنسانية. الأطفال الذين خرجوا من أصيلة صباحاً وهم يحملون أقلامهم وألوانهم، عادوا مساءً وهم يحملون دروساً حياتية عن أهمية الاحترام والاهتمام بالتفاصيل الإنسانية. لقد تعلموا أن الفخامة الظاهرية لا تعني شيئاً بدون الاهتمام بالحاجات الأساسية، وأن صوت الطفل الصغير يستحق أن يُسمع ويُحترم. هذه التجربة التي مزجت بين الإلهام والخيبة، ستظل محفورة في ذاكرتهم كدرس لن ينسوه عن معنى المسؤولية والاحترام المتبادل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى