مني النمر تكتب: من أول السطر …؟!!

في كل مرة نظن أننا أنتهينا ، تأتينا الحياة لتهمس لنا بخجل : ” ما زال فيك ما يستحق البدء مجدداً ” ، و كم جميل أن نصدقها، أن نحتضنها رغم جراحها ونقول لها: حسناً ، دعينا نكتبها من جديد ، سطراً سطراً ، ولكن هذه المرة كما نشتهي نحن ، لا كما أراد لنا الآخرون .

من أول السطر يعني أن تمنح نفسك ما لم يمنحك إياه أحد ، أن تكتب أسمك بخط يدك ، أن تزين الصفحة بما شئت ، حتى لو كتبت فقط “أنا بخير” ، فهذا يكفي …

أن تمحو ما كتبه الألم لا يعني أنه لم يكن ، بل يعني أنك أخترت ألا يكمل معك الكتاب كله ، أخترت أن يكون شاهداً لا صانعاً …

نحتاج جميعاً لأن نكتب الحياة من أول السطر ، و لكننا نخاف ، لأن البدايات ليست سهلة ، لأن البياض أحياناً يرعب أكثر مما يطمئن ، لأن الصفحات النظيفة تحتاج إلى شجاعة ، لا إلى أقلام فحسب …

نحتاج أحياناً إلى أن نتوقف قليلاً ، لا لأننا ضعفاء ، بل لأننا نحتاج لفرصة نمنحها لأنفسنا كي نعيد ترتيب ما نريده فعلا ، نحتاج لبداية جديدة ، لنقطة فاصلة لا يشوبها ألم ، لصفحة بيضاء لم تخدش فيها أرواحنا ولم تثقل بالكلمات التي لم نقلها يوماً ، نحتاج لفسحة نكتب فيها الحياة من أول السطر ، دون أن نحمل فوق أكتافنا بقايا البدايات السابقة . نحتاج لنسخة منا لم تعرف الخذلان ولا تعب الانتظار ، لم تطعن من الخلف ولم تجبر على التصفيق مرغمة ، نحتاج لوجه يبتسم بصدق ، لا يجامل العالم ولا يخجل من دموعه إذا سقطت في لحظة صدق …

كثيراً ما نحيا داخل نصوص كتبت لنا ولم نكتبها ، نمثل أدواراً لا تشبهنا ونبتلع صمتنا على جمل لم تقال أبداً ، نتعثر بحروف لا تخصنا ونمشي فوق سطور مهزوزة بين أيدينا …

قل لي كم مرة شعرت أن ما تفعله ليس أنت … ؟
وأن ضحكتك ليست لك ، وأن الأماكن التي تألفها لم تعد تؤويك …؟

كم مرة خذلتك نفسك لأنك ظللت في مسرحية ما خوفاً من أن يغلق الستار وأنت على الهامش أو غير موجود بداخلها …؟
نحتاج لأن نعترف: أننا ضللنا الطريق مرات كثيرة فقط لأننا خشينا أن نبدأ من جديد ، لأننا أقنعنا أنفسنا بأن التصالح مع الألم أكثر سهولة من مواجهته ، وبأن الجراح القديمة جزء منا ، ونسينا أننا نستحق أن نشفى منها ، نستحق أن نحيا دونها ، نستحق أن نختار لا أن نُختار …

من أول السطر تعني أن تسامح ذاتك على ضعفها ، أن تعتذر لها لأنك تجاهلت صراخها طويلاً ، بأن تقول لا بأس ، كلنا نحتاج لإعادة التكوين من جديد ، تماماً مثل فصل الخريف حين تتساقط فيه الأوراق دون أن يصيب الشجر حرج ، فيخلع ما يؤلمه في صمت ويتركه للريح كي تأخذه بعيداً ، نحتاج نحن أيضاً أن نخلع ما آلمنا ، أن نسقطه عن أرواحنا ونقف على حافة الأشياء متأملين من سنكون بعد كل هذا …

من أول السطر لا تعني النكران ، بل التصالح ، لا تعني الإنكار بل الفهم ، لا تعني أن نمحو كل ما كان ، بل أن نقف على أنقاضه بسلام ونبني عليه دون أن نهدم أنفسنا …

و تذكر أن تبدأ من جديد لا يعني أنك فشلت ، بل يعني أنك أدركت قيمتك ، وأنك توقفت عن السير في الطرق التي لم تخلق لك ، أن تعود خطوة للوراء لا يعني الضعف بل الحكمة ، يعني أنك أخيراً قررت أن تنصت لنفسك …

من أول السطر يعني أن تصنع السلام مع أشيائك الصغيرة ، مع كوب القهوة الذي لم تعد تجد فيه مذاقه ، مع الموسيقى التي أصبحت تخدشك لا تواسيك ، مع الأماكن التي أصبحت تشبه الآخرين أكثر مما تشبهك …

من أول السطر يعني أن تعيد الحكاية لنفسك ، أن تكتبها بلغتك لا بلغتهم ، أن تصوغها من وجعك ولكن بلغة أملك ، أن تقول لنفسك: أنا لم أعد كما كنت ، ولن أعود ، وهذا حقي …

“أكتب من أول السطر ، فأنت لم تخلق لتكمل جملا لم تخترها .”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى