صحبة الأطفال والجدار…
مصطفى البعليش-أصيلة
تفتح أصيلة جدرانها لكل الألوان، كما يفتح سكانها قلوبهم للقادمين مما وراء البحر ومما أمامه، في كل مساء أضبط المنبه على أمواج البحر، وأصحو قبل أول موجة على وجه الرمل، أدون أثر الماء على الخيال، لا على الورق كما فعل الفنان محمد المليحي رحمه الله.
أتناول فطورا سريعا قبل أن تتراكم مطالب اليوم من سكر وزيت وبطاطس وغيرهم كثير، ثم أنسحب بخفة رغم وزني الكبير، قبل أن يلسع عقرب الساعةِ العاشرةَ، أسلك طريق الكورنيش لأصل إلى ساحة القمرة مركز المدينة الأثير، وأنتظر أطفال مشغل التعبير الأدبي وكتابة الطفل، صوت البحر يتردد في أعماقي، وسؤال ماذا سيكتب الأطفال في هذا الصباح يداعب أذني، تظهر أولى العيون متطلعة لما ستجود به الجدران، هذه لينا والأخرى أسيل وثالثتهم شهد وغير بعيد تظهر غفران وثوبة وخولة وإيهاب، إلى جانبي إسماعيل بهاء الدين يتخلص من بقايا نومه، ومحمد شان يسبح في صمته المريب. تلتحق بنا إخلاص ورحاب وغسان، أسماء تباع وأخرى تشترى هكذا أشاغب بنت القنيطرة التي تصحب أبرار….
نبدأ الجولة حيث تتشكل الجداريات تباعا أمام أنظارنا، أفكر بصوت خفيض حتى لا أشوش على عيون الأطفال، هنا تظهر بصمة خليل الغريب، وهناك يطل فريد بلكاهية من وراء حجاب، أبتهج لرؤية جدارية في إحدى الزوايا وأتساءل عن جدوى ألوان مبعثرة على جدار في زقاق أخر، ألعن هذا الصوت الداخلي الذي يفسد علي لذة اللون، فربما كان المعنى في بطن الفنان، وربما نبت بعض الورد ولو على جدار، ها هو أبو الخير يتسلل إلي فأطرده وأعود للأطفال.
نحط الرحال عند فنان وقد شحذ أصباغه ووضع الخريطة المفضية إلى الجمال، يسأل الأطفال عن البداية عن سر الإلهام وعن معنى ما قيد على الجدار، أستبق الإجابة فأتخيلني الفنان، البدايات كانت بالزيت والزيتون ودونهما، سر الإلهام صوت الأعماق،
أما معنى الجدارية فمتروك لاجتهاد المتلقي الذي تشكلونه، أقتنع بصوتي وأصغي لسفر الفنان وهو يربط بين الكلمة واللوحة الفنية، أتهيأ لطرح سؤال لكني أتراجع في أخر المطاف، وقبل ذلك أطرد مصطفى الربودي ومحمد الحبيب حتى لا يورطاني في رؤية مسارات لا يهتدي إليهما إلا من أطال النظر وأطال الشغب.
محمد المؤذن الشاعر الرقيق منهمك في هاتفه، على الأرجح أنه يضبط أخر قصائده، يقدم الليل ويؤخر النهار، يداعب الأبيض ويهجو السواد، ثم يصغي إلى صوت نبض قلبه وهو يعلن الحب، كل جدارية هي قصيدة مؤجلة، فالجداريات في عيون المؤذن ليست هي جداريات كل العيون، وعيون المؤذن ليست ككل العيون.
في المساء تلتئم الشلة على مقربة من السور البرتغالي، أرتشف شاي حدو الملوز نسبة إلى نبتة اللويزة التي تهدئ الأعصاب كما يشاع، وذلك اختيار نكاية في النعناع الذي يسبب لي انتفاخا إضافيا لما أنا عليه، يصل حصاد اليوم تباعا، إنه رؤى الأطفال لما عاشوه هذا الصباح، أصوب لفظة وأعدل عبارة، وأعود للخلان وقد خاضوا في كل مبهج وطريف من أدونيس إلى الست أم كلثوم مرورا بعدوية ووقوفا عند عين مزورة حيث تشوش خاطرنا وبكينا طويلا وضحكنا بعد ذلك.