«أرامكو» هنا والمظاهرات هناك

بقلم / فهد إبراهيم الدغيثر

تخلل معظم أيام الشهر الماضي حدثان مهمان في منطقتنا. الأول الإعلان الرسمي المنتظر عن موعد طرح جزء صغير من شركة أرامكو السعودية العملاقة للاكتتاب العام، وما يتطلبه ذلك من إفصاح كامل عن نشاط الشركة وممتلكاتها. أما الحدث الثاني فقد تمثل في اندلاع المظاهرات الشعبية غير المسبوقة في لبنان أولاً ثم في العراق ضد هيمنة إيران عبر ميليشياتها العربية الخائنة والمطالبة بطردها من هذه الدول.

اكتتاب أرامكو يذهل العالم كما هي المملكة العربية السعودية دائماً، وما يحدث بداخلها من حراك وتنمية ومشاريع غير مسبوقة. إذ وبالرغم من الحملة غير المسبوقة بواسطة عدد من المؤسسات المالية في الغرب تحديداً بهدف تخفيض التقييم المالي للشركة من ١٫٧ ترليون دولار وهو المعتمد إلى أقل من ١٫٣ ترليون دولار، تمكنت أرامكو من تغطية كامل الطرح بل وتحقيق فوائض سواء فيما يخص نصيب الأفراد من الحصة المطروحة أو المؤسسات والمحافظ المالية المحلية والدولية. إذ وحسب النشرات المعلنة من مجموعة سامبا المالية وهي مدير الاكتتاب، فقد تقدم ما يقرب من خمسة ملايين سعودي ومقيم للشراء بما تجاوزت قيمته ٤٧ مليار ريال. (كان اكتتاب البنك الأهلي السعودي بـ ١٣مليار ريال للأفراد و٩ مليار للمؤسسات ومشاركة ١٫٢ مليون مكتتب هو الأضخم في تاريخ المملكة). أما ما يخص اكتتاب المؤسسات فقد بلغ في أول ١٢ يوما من الطرح ١١٩ مليار ريال وسيستمر الطرح لهذه الفئة حتى الرابع من ديسمبر. تجدر الإشارة هنا إلى أن قيمة مجموع الاكتتاب القصوى المطلوبة لكل الفئات هو أقل من ١٠٠ مليار ريال (٢٥ مليار دولار). هذا الإقبال على شراء السهم لا يحمل إلا نتيجة واحدة وهي أن المواطن السعودي والعالم وثق بالشركة وبالدولة السعودية وبالتقييم المناسب لهذه الشركة العملاقة رغم محاولات التخريب والتعطيل. أشارت إلى ذلك السيدة رانيا نشار الرئيس التنفيذي لمجموعة سامبا المالية في تصريحها مساء الخميس الماضي موعد انتهاء فترة الاكتتاب للأفراد.

وحتى نستوعب الفارق الهائل بين البناء والدمار، وبين التنمية والفساد في منطقتنا، نجد أن هذا الطرح السعودي المثير والناجح بكل المقاييس يتم كما أشرت قبل قليل، متزامناً مع اشتعال المظاهرات الشعبية غير المسبوقة التي تحدث في الداخل الإيراني وخارجه ضد حكم المرشد وما يجره من فساد وويلات. ففي لبنان والعراق خرجت الشعوب العربية تطالب بطرد إيران وميليشياتها بعد أن نفد صبر هذه الشعوب وهي تنتظر الأمن وتحقيق رغد العيش والتخلص من سموم الطائفية المقيتة. حتى في سوريا الشقيقة تواجه إيران مقدماً، القمع والتأديب كل أسبوع تقريباً بواسطة الضربات الإسرائيلية بسبب رفض إسرائيل هذا التواجد. الغريب والمضحك في آنٍ أن حكم المرشد في إيران غير قادر حتى الآن وبعد نصف قرن من الأوهام المتنوعة أن يقتنع بفشل خططه الفارسية المجنونة ومواقف الشعوب العربية منها، ويستمر حتى اليوم بتكرار نفس العبارات الخطابية وبعثرة المال لخدمة الميليشيات المتنوعة. خطب ومزاعم وتهديدات رنانة لكنها على أرض الواقع لا تكفي لشراء نصف رغيف لعائلة إيرانية فقيرة من بين ٦٠ مليون إيراني يعيشون تحت خط الفقر.

الحديث عن طرح أرامكو لم يكن حدثاً عادياً بل عالمي وغير مسبوق. لهذا لجأت إيران المحاصرة اقتصادياً، وبعد عدة محاولات قرصنة وعمليات إرهابية في عرض البحار، إلى إفشاله عبر استهداف مصافي بقيق وخريص في المنطقة الشرقية من المملكة في شهر سبتمبر الماضي اعتقاداً منها أن مثل هذا الاعتداء سينتج عنه اهتزاز لثقة العالم في الشركة وقد تحدث أزمة عالمية ربما تساهم في تخفيف العقوبات المفروضة عليها. رد فعل المملكة وحلفاؤها جاء حكيماً ومخالفاً لتطلعات إيران كما حدث بالضبط عندما اسقطت إيران طائرة الدرون الأمريكية قبل ذلك. العالم بات مدركاً أن إيران وبفعل العقوبات والحصار تبحث عن أي سبب قد يرفع العقوبات ومن ذلك المواجهة العسكرية لكنه لم يتحقق. في موضوع الهجوم على المصافي السعودية كان رد الفعل السعودي في قمة الحكمة وبعد النظر عندما تم إصلاح المحطات خلال أيام وعودة مستويات الإنتاج وتجاهل هذا الاعتداء عسكرياً مع العمل على إدانته سياسياً. السعودية لم تكتف بذلك بل فاجأت العالم بالإعلان عن عزمها للطرح وحددت موعده بعد بضعة أسابيع من الحادث وأعلنت عن نشرة الاكتتاب الضخمة في ٨٠٠ صفحة وكأن شيئاً لم يكن.

هذا هو التفسير المنطقي والعملي لنقل المعركة إلى داخل إيران. شباب العرب الثائر ضد الهيمنة الإيرانية بل وحتى الشباب الإيراني في الداخل أصبح يرى الواقع أمامه عملاً وحقيقة وليس مجرد وعود فارغة. هنا دولة تبني وتتقدم وتتحول إلى صانع للتنمية في منطقة هي الأصعب والأكثر تعقيداً في العالم وتستعد لقيادة قمة العشرين في الرياض، ودولة أخرى توشك على سماع قرارات من حلفائها الأوروبيين بتصنيف ميليشياتها كجماعات إرهابية كما تفكر ألمانيا بالإقدام عليه. دولة ينشغل أبناؤها وبناتها منذ شهر بمناقشات يومية ساخنة لمعرفة الحصول على أكبر عدد من الأسهم المطروحة من شركتهم، ودولة أخرى لا يشغل أبناؤها إلا البحث عن الرغيف والهروب من رصاص الحاكم الموجه لصدورهم ليقتلهم بالمئات في كل مناسبة يعبرون فيها عن مطالبهم المشروعة. دولة تعلن عن نشرة اكتتاب بمئات الصفحات لم تبق ولم تذر في التفاصيل والأصول، وساهمت عشرات المؤسسات العالمية مع الشركة بصياغتها دون إخفاء أي أسرار، ودولة أخرى تظهر الشعوب إلى الشوارع لنشر صفحات الخزي والعار الذي لازم المرشد وحكومته وعملائها في كل مكان.

لم يدرك المرشد بعد ولا أظنه سيفعل، أن كلمة أمل واحدة من قائد عربي شاب وشجاع وملهم قادرة على نسف عشرات السنين من خطبهم ومدوناتهم المزورة.

* نقلا عن “عكاظ”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى