قصة قصيرة.. العيلة

يكتبها: حليم سمير

منذ صغري كنت أترقب ذلك اليوم الذي يدعونا فيه جدي إلى بيته نحن وأعمامي وعماتي، والذي كنت استعد له بفرحة لا توصف.
أستيقظ في هذا اليوم مبكراً محدثاً أكبر قدر من الضوضاء حتى يصحو كل من في البيت فذلك اليوم الذي ستجتمع فيه العائلة أو العيلة كما يحب أن يسميها والدي؛ نذهب إلي بيت الجد والجدة والذي تهب منه روائح ذكية للطعام الذي يطهي من أجل العيلة، ترحاب حافل من جدي وجدتي وقبلات وأحضان للأحفاد.

مازالت تلك الرائحة التي تفوح من ثيابهم عالقة إلى الآن في ذاكرتي والتي هي خليط من النفتالين وأبو فاس* وكانت محببة إلي نفسي جداً، يمر القليل من الوقت ويظهر أبناء وبنات العم وخلفهم أعمامي وعماتي و زوجاتهم و أزواجهن، بعد السلام والترحاب يجلس الرجال مع الجد و تدخل النسوة إلى المطبخ لمساعدة جدتي وأيضا لإطلاق هوايتهم المحببة وهي الحديث الذي لا يتوقف بينهم ولو لثوان و ننطلق نحن الصغار في جميع أنحاء البيت مطلقين العنان لكل الطاقة المكبوتة داخلنا من الدراسة وضغوط الأهل والغريب أننا لا نسمع هنا نهراً من أحد بل فقط ابتسامة وسعادة بالغة علي وجه الجد نلعب سوياً فبيت الجد رحب متسع أو هكذا شعورنا، دفء غريب لا يضاهيه أي شيء في الحياة.

تخرج الجدة من حين لأخر لتطعم احدنا ونحاول الهرب منها فنحن نريد إلا تضيع أي لحظة دون التمتع بذلك الدفء او الحب المحيط بنا، ويأتي وقت الغداء ويلتف الآباء والأمهات حول المائدة ام نحن الصغار فنجلس علي الأرض حول الطبيلية* وتجلس معانا جدتنا لكي تطعمنا بيدها والعجيب أني كنت اشعر أن الطعام يكتسب لذة إضافية من يديها نأكل بشراهة وكأننا لا نأكل في منازلنا حتى الأعمام والعمات كنت ألاحظ انهم يأكلوا بشهية كبيرة.

الصغار أول من ينهي الطعام ليس لأننا شبعنا ولكن حتى ننطلق مجدداً في ما نفعله وسط نداء الجدة أن نكمل الطعام لكن هيهات فهذا اللقاء سيمر أسبوعين قبل أن يتكرر. لا نلتف حولها مجدداً سوي مع طبق الفاكهة الذي يختلف ما فيه باختلاف الموسم نختطف ما به لنختفي مجدداً ولا نجلس إلا مع قرب الرحيل ويجلس كل الكبار سوياً يحتسوا أكواب الشاي بالنعناع الأخضر الطازج والذي تزرعه جدتي في حوض معلق في شرفة البيت.

ينتهي اليوم نتفارق بالبكاء لانتهاء اليوم سريعاً ولحظات الوداع التي طالما كرهتها.

تمر السنون وخلالها يرحل الجد عن عالمنا ولكن ظل لقاء العيلة مع الجدة حتى تلحق به بعد سنوات أخري؛ ولكن بعد رحيل الجد اللقاء اختلف قليلاً فاقداً معه جزءاً من الدفء لتخلو مسافة لظل كئيب من المشاحنات بين الإخوة تنهيها جدتي بكلمة غاضبة فيصمت الجميع ولكن نحن الصغار لم نفقد شغفنا إلي ذلك اللقاء مع ذلك التغير.

اما بعد رحيل الجدة فقد رحل ذلك اللقاء المنتظم بلا رجعه ولكن علي مسافات متباعدة جداً يأتي خجلاً في عرس أحدنا نحن هؤلاء الأشقياء الصغار الذين كبروا وليكمل فقط الشكل الاجتماعي المطلوب لتلك المناسبات. وأخيرا يرحل تماماً مودعاً العيلة، ليبدأ رحلة جديدة مع أبي وأمي وأخواتي وأبنائي نجلس أنا وأخي مع أبي وتذهب أختي مع النسوة إلي المطبخ لمساعدة أمي وكان المشهد يتكرر أمامي مع اختلاف الأدوار فأصبحنا نحن الكبار، أثناء الغداء ننظر لبعضنا أنا وأخواتي حالمين أن يستمر اللقاء إلي الأبد ولكن داخلنا متأكدين من الاستحالة ونعلم أننا نعيش مع هذا اللقاء فترة حتى يأتي دورنا ونكون نحن أيضا موضع الجد والجدة، يملا اليقين أنفسنا أن صغارنا يشعروا بما شعرنا به ونحن صغار بدفء لقاء العيلة.
تمت
تاليف: حليم سمير
* النفتالين : مادة توضع مع الملابس للحفاظ عليها من حشرة العثه
*ابو فاس : دهان شعبي كان يستخدم بكثرة في الماضي للعلاج من البرد وآلام العظام.
*الطبلية : منضدة دائرية صغيرة لايزيد ارتفاعها عن ٢٠ سم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى