“فريسة للشيطان”.. فيلم رعب ضائع بين الفانتازيا والواقعية

كتبت/ مريم محمد

لا تقتصر أفلام الرعب التي تنتجها هوليود على أعياد الهالوين فقط، فهي سلعة سينمائية رابحة دائما نظرا للإقبال الدائم عليها من الجمهور، ورغبة الجهات المنتجة في تسويق هذا النوع خلال العقود الماضية. وتتعدد مساحات التخويف التي تمارسها هوليود على محبي هذا النوع من الأفلام، ومنها التخويف من المستقبل بتصويره قاتما خربا بعد نهاية العالم، ومنها أيضا التخويف من غزو كائنات فضائية مزعومة.

يبقى الخوف النابع من الذات الإنسانية، وتجلياته في المرض النفسي وفي المس الشيطاني، مميزا بكونه رعبا ذاتيا يأتي من الداخل، ويرتبط بالماضي الشخصي للأبطال، وهو ما يجعله الأقرب والأكثر تأثيرا بين كل الأنواع. وتقف بعض الأعمال الفنية الفائقة حجر عثرة دون تطور الفنون، ذلك أنها تحمل من الجمال والكمال الفني ما يعجز الفنانون عن تقليدها وليس تجاوزها. ويقف فيلم “طاردو الأرواح الشريرة” (The Exorcist) 1973 للمخرج ويليام فريدكين، بين المبدعين وبين تطوير هذا النوع من الأفلام، ذلك أنه قدم نموذجا متجاوزا لزمنه، وقد حاول سينمائيون كثيرون تقليده وتقديم أفلام رعب تتعلق بالشياطين والمس الشيطاني، لكنها بالمقارنة به تصبح كوميديا سخيفة.

يقدم المخرج دانيال ستام فيلمه الجديد “فريسة للشيطان” (Prey for the Devil)، الذي يعرض حاليا في الولايات المتحدة وكندا، كما لو كان يحاول تقديم “طاردو الأرواح الشريرة” بنسخة عصرية بعد 40 عاما، ورغم اختلاف القصة والمعالجة، فإن حركة الممثلين داخل الكادر والمؤثرات الصوتية واللعب بالإضاءة وأجواء التخويف ذاتها تتكرر في الفيلم، بدءا من تشوهات الوجوه والأجسام وانتهاء بالدفع بالممسوس إلى أعلى قرب سقف الحجرة. تدور قصة فيلم “فريسة للشيطان” حول الراهبة الشابة آن (الممثلة جاكلين بايرز) التي تلتحق بمؤسسة جديدة أنشأتها الكنيسة الكاثوليكية بالفاتيكان لتعليم الرهبان طرد الأرواح الشريرة، وذلك بعد ارتفاع نسبة الممسوسين في العالم.

ورغم عدم السماح للراهبات بطرد الأرواح الشريرة واعتباره حكرا على الرهبان، فإن “آن” تقدم نفسها إلى الأستاذ الأب كين (الممثل كولين سلمون) الذي يطلع على قدراتها ويسمح لها بالتدريب. تقتحم الراهبة الشابة خط المواجهة في معركة روحية برفقة زميلها الأب دانتي (كريستيان نافارو) في معركة من أجل إنقاذ طفلة صغيرة. كانت المعركة شخصية بالنسبة للراهبة الشابة، التي تعتقد أن الشيطان نفسه قد عذب والدتها منذ سنوات، وهو ما يجعلها أكثر تصميما على حماية الفتاة، لكن الشيطان يواجهها ويحاول السيطرة على المدرسة بالكامل.

طرد الأرواح وعلم النفس يثير الفيلم أكثر من قضية في مساحة شديدة الحساسية مجتمعيا، فالمس الشيطاني -رغم الاعتراف الديني به- يختلط مع الكثير من الدجل والنصب في المجتمعات الأقل ثقافة، ويمارس الكثيرون التجارة فيه بالإيهام تارة وبالخداع تارة أخرى، والمدهش أن فئات مجتمعية -قد تنتمي إلى النخبة المثقفة أو النخبة الاقتصادية- قد تلجأ إلى ذلك الدجل لإخراج الروح الشريرة من جسد الإنسان بواسطة شخص لا يثقون فيه، يأسا من شفائه على يد الطب النفسي.

ورغم التحديد الذي وضعه الفيلم -بوصفه عملا عصريا- على لسان الأب الأستاذ الذي أكد أن الحالات الميؤوس منها طبيا فقط هي التي تُحوّل إليه لطرد الروح الشريرة منها، فإن الطبيبة النفسية “بيترز” (الممثلة فرجينيا ماديسون) بالمؤسسة تلجأ للراهبة “آن” لتطلب منها علاج مرضاها بعد أن يئست من ذلك بالأساليب الطبية. هذا الإيمان بموهبة “آن” يأتي بعد أن يتم إخراج الطفلة “ناتالي” من المصحة باعتبارها قد شفيت، لكنها ما تلبث أن تعود بعد انتكاسة مفاجئة.

تكتمل اللعبة الدرامية في هذا الفصل من العمل، حيث تعترف الراهبة الشابة بأنها كانت حاملا في سن الـ15، وأن ناتالي هي ابنتها التي تخلت عنها في السابق.

تبدأ معركة إنقاذ ابنتها حتى لو أدى الأمر لتقديم نفسها للشيطان بديلا لابنتها. وبعد معركة، احتوت على المؤثرات البصرية المعتادة لفيلم عن الأرواح الشريرة، تنتصر. تشير القراءة البسيطة للمعركة إلى ما يوحي به السيناريو والحوار صراحة، لكن ثمة مستوى أكثر عمقا يلخص معركة أخرى تدور بين الأم وابنتها، حيث تنتقل مشاعر الإحساس بالذنب بين الشخصيتين، كما تنتقل الرغبة في التضحية بالذات بينهما، بالإضافة إلى الأب “دانتي” الذي فقد شقيقته نتيجة المس الشيطاني.

المعركة ضد الشيطان في الفيلم تتعلق بالمستقبل دائما، فالطفلة ناتالي والجنين المجهض لشقيقة الأب دانتي هما ميدان المعركة. لا تربح “آن” معركتها ضد الشيطان فقط، ولكنها تفوز بزمالة في طرد الأرواح الشريرة بالفاتيكان، وأخرى من المدرسة التي وصلت إليها قبل خوض المغامرة، وتكسب ابنتها وتتخلص من الشعور بالذنب بسبب التخلي عن طفلتها.

إيقاع متباين وأداء جامد اعتاد الممثلون على نوع من الجمود الذي يكسو الوجوه في الأماكن الدينية وخاصة الكناس، وكأن الفكرة العامة هي منع الابتسامة داخلها أو أنه لا يليق بالبشر أن يبتسموا في الكنائس أو الأماكن الدينية، ومع ذلك فقد شهد الفيلم أخيرا ابتسامات من الأب الأستاذ كوين ومن الراهبة التي حققت نجاحها المهني والشخصي في آن واحد.

تغير إيقاع المونتاج أكثر من مرة صانعا فرقا هائلا في القدرة على المتابعة، فقد جاء النصف الأول من الفيلم هادئا -لحد الملل أحيانا- حيث المشاهد الطويلة نسبيا، والحركة التلفزيونية البطيئة للممثلين ومتابعة الكاميرا لمشهد صعود درج السلم لأحدهم دون جدوى درامية حقيقية سوى استهلاك الوقت، وفي المقابل فإن الجزء الثاني من الفيلم احتوى على أكثر من معركة مع الأرواح الشريرة، شهدت إيقاعا أسرع وأكثر من قطع مفاجئ مثير للرعب.

ورغم ذلك حافظ الفيلم على أجواء الغموض والمناخ القاتم الذي يليق بالشعوذة وطرد الشياطين من الأجساد، وطرح فكرة جادة على الهامش هي التمييز النوعي بين الرجال والنساء في الكنيسة من جهة، والعلاقة بين العلاج النفسي والعلاج بطرد الأرواح من جهة أخرى.

يكمن الفرق بين فيلم “طاردو الأرواح الشريرة” (1973) للمخرج ويليام فريدكين، وبين “فريسة الشيطان” 2022 للمخرج دانيال ستام في الأصالة التي يفتقدها الأخير. في الأول يتعامل المخرج مع بشر يشبهون أولئك الذين نلتقي بهم في البيوت والشوارع. قصة أسرة ابتليت ابنتها بأعراض غريبة، يطلقون عليها أعراضا شيطانية، يتم الدفع بها إلى قسيس يؤمن بالمس الشيطاني، على عكس رؤسائه الذين يرفضون الفكرة، فيتحمل المسؤولية وحده. كان جزء من أصالة الفكرة كونها اقتبست عن قصة حقيقية.

في “فريسة للشيطان” يبدأ المخرج بفرضية تتعلق بإنشاء الفاتيكان مدرسة تهدف إلى تعليم الرهبان كيفية طرد الأرواح بعد زيادة نسبة سيطرتهم على البشر، ولكنه يحاول بعد ذلك أن يعيد الفيلم إلى أرض الواقع، ويطرق قضايا ملموسة منها التمييز النوعي في العمل بشكل تقليدي، فيخالف المنطق الخاص لعمله، ويسقط بين الفانتازيا والواقعية، ومعهما يفقد الأصالة التي فقدها حين قدم شخصيات لا تنتمي للواقع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى