رواية «شظايا القدر»… حين تتجسد المعنويات وتنطق بأفعالها!

كتب/ د. عمرو الأمير

 

وكأن ما قامت به شيرين فكري في روايتها «شظايا القدر» هو من قبيل التخاطر بيني وبينها..

إذ كنت في عام 2016 أحاول أن أكتب قصصا على لسان المعنويات، فحاولت أن أكتب قصة على لسان «القدر» مرة، وأخرى على لسان «الحب» وغيرها على لسان «الرزق». فقد كُتب من القصص على لسان الإنسان، وأحيانا على لسان الحيوان كما في قصص «كليلة ودمنة» وغيرها، ولكن لم يبلغ علمي أن أحدا كتب على لسان المعنويات؛ أن حاول إنطاق «الحب» فيتكلم على لسانه، أو يكشف مكنونات القدر فيُنطقه ليُظهر للدنيا رؤيته الخاصة ويفسر لنا أهدافه من فعائله بنا كانت خيرا أو شرا، أو يكشف خبايا الرزق ولماذا يذهب إلى هذا وينزاح عن ذلك فيجعله مُمحلا فقيرا مُعدَما.

نعم لقد حاولت أن أقوم بهذا التجربة، ولكني فشلت؛ وذلك لأني مبتدئ في مجال الكتابة القصصية، وأرى أن تجسيد المعنويات وجعلها من شخصيات الرواية من أصعب المهام الروائية؛ إذ يتطلب الأمر قدرات ذهنية وبعضًا من التفكير الفلسفي والرؤى الفريدة، فضلا عن الإمكانيات الفنية لدى الكاتب، لذا أضربت صفحا عن المشروع، لتمر السنوات وتجيء «شيرين فكري» لتنجح محاولتها في التعبير عن القدر في روايتها المعنونة بعنوان تمهيدي (شظايا القدر) يليه العنوان الرئيسي (للقدر حسابات أخرى) ولعله اقتباس من الصحافة في أسلوب كتابة العناوين. واقتبست من ضربات القدر لونًا أسود لغلاف روايتها، في منتصفه عنوان أبيض يتدلى منه الدم القاني، في لوحة سوداء تزينها بذلة رجل معلقة بها زهرة، لأن بطل الرواية رجل في الأساس، ويمتزج اللون الأسود مع الدم القاني مع سواد البدلة الرجالية ليوحي لنا بالحالة التي يُسيّر بها القدرُ أحداث الرواية ومصير البطل الرجل!

وكان الإهداء في الرواية لافتا لي إذ قالت: “إهداء إلى القدر الذي يُخرج لنا ما في جعبته، ليفاجئنا دائما كل يوم بما لا نشتهي، وبأشياء لم نتوقعها أن تحدث بعدما مررنا به من ظروف قاسية. فحين يحين القدر يصمت القلب ويصبح تائها داخل نفسه، حين يحين القدر يصبح كل شيء مباحا، ويصبح الهروب بلا فائدة”. فاشتريت الرواية لأعرف كيف عالجت هذه النقطة، كيف عبّرت عن القدر ووصفته روائيًّا.

وقد اتخذت الكاتبة شيرين فكري من الراوي العليم المعلِّق الحكيم وسيلةً لإظهار تصرفات القدر، وهي تُصِرّ على إقحام اسمه في كل قضايا الرواية ومصائبها كما يَظهر في تعبيراتها مثل: “وكأن القدر يعاندنا”، “هكذا كان القدر يتلاعب مع فهمي”، “ولكن كانت للقدر حسابات أخرى”، وهكذا تسير الكاتبة على هذه الوتيرة، بإظهار القدر وكشف تصاريفه في الأمور، وتلاعبه بالأحداث.

وحين تصفحتُ الرواية قابلتني شيرين بمقدمة لها، تبين فيها هدفها من سطورها، ففيها تقول: “يبقى القدر دائما هو سيد الموقف وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة شئنا أم أبينا… آه من القدر وما يفعله بأرواحنا.. آه من القدر حين ترك بداخلنا حزنا… آه من القدر…”. وتتوالى هذه الآهات في ثنايا الرواية حتى آخر فقرة!

لقد اختارت «شيرين» أن تكون الراوي المعلق على الأحداث، والعليم بخبايا نفوس الشخصيات، والحكيم بما يلقيه من عبارات ألفها بنفسه أو اقتبسها من مشاهير الكتاب، فنجد عبارات مثل: “هذا درس الحياة الأول لنا جميعا.. لا الحزن يدوم ولا الفرح يدوم”، “ويبقى الانتظار طقسا مرهقا من طقوس الحياة اليومية”، “حقا كما يقال: لا أحد يحب الرحيل”، بل يأخذ الراوي من أشعار الإمام الشافعي وغيره معلقا بها على أحداث القصة بما يذكّرنا بأسلوب قصص «ألف ليلة وليلة»، ويستمر الراوي على هذا النمط.

وتذخر الرواية بتقنية «الفلاش باك» التي يسترجع بها البطل «فهمي» ذكرياته التعيسة، وهي قصة حب فاشلة تخللتها أحداث قاتلة لأفراد من عائلته، وهي تقنية أكثر تعبيرا عن آلام البطل، لأن اجترار الماضي يكون أصعب من حالة المرور به، لأن آلامه وأحداثه قد نضجت واكتملت وتآزرت على نفس الضحية حتى مزقت نفسه أشلاءً، وطحنت آماله وتركته محطما.

ويلعب المونولوج (حديث النفس) دوره في الكشف عما يدور بنفس أبطال الرواية، وتركز الكاتبة على المونولوج نظرا لأنها مولعة بتحليل النفوس ووصف آلامها بدقة.

وأبطال الرواية عائلتان تتاجران في المخدرات والممنوعات، إذ جعلت منهم الكاتبة ضحايا لضربات القدر المؤلمة، وكأن القدر لا يؤذي ولا يدمر بهذه الصورة المريرة التي وصفتها إلا من يستحقون ويلاته، فمن سار في طريق الغي والضلال لا يلقى سوى التدمير والمحق.

وتركز الكاتبة على شخصية المكان إذ للأماكن دور كبير في الرواية، فالفيلا حلبة معركة قاتلة لكبار العائلتين، وأماكن سباق السيارات هي مواضع اللقاء الذي يحدده القدر بين الأبطال ليبدأ الصراع.

وأحداث الرواية المؤثرة من بنات أفكار الكاتبة ووحي خيالها الخصب، الذي أراه يميل إلى التشاؤم أكثر من التفاؤل، فهي تُظهر القدر في مظهر مخيف بشع، ثم في بعض المواضع تلاحق نفسها بكلمات تخفف من نظرتها السوداوية إليه على لسان بطل الرواية «فهمي»: “سامحني يا الله، أعلم أنه قدرك، فأنا لا أبكي اعتراضا على قدرك، وإنما أبكي فقدا واشتياقا… سامحني يا الله إذا حزنت على قضائك رغم أني مؤمن به.. سامحني يا الله إذا نفد صبري وضاقت نفسي”، فترد عليه شخصية أخرى: “هذا قضاء الله وقدره يا بني”.

لم تكن شخصية القدر في الرواية مجسَّدة ولا متكلِّمة، إنها كانت تسير في خطاها تبعثر الآلام وتحطم الآمال، وكان دور الراوي أن يصف هذه الخطوات ويعلق عليها. لقد كان القدر هو البطل المحرك للأحداث، وكانت شخصيات الرواية عرائس ضعيفة مستسلمة، لم تملك ولو حتى مجابهة القدر بالقدر، وكان استسلاما يليق بمن ساورا على درب الشيطان وتركوا الصراط القويم. ولو سردت الكاتبة أحداث روايتها دون أن تذكر اسم القدر لما انتبه القارئ إليه، ولاختفت شخصية القدر تماما، ولكنها لم تجد وسيلة لإظهار شخصية القدر إلا بنسبة أحداث الرواية إليه بشكل مباشر.

والآن، ما المكان الذي يمكن أن نضع فيه رواية “شظايا القدر” في مسار الرواية الحديثة؟

إنها رواية رومانسية تحاول الكشف عن الرؤى الفلسفية في الحياة من خلال وصف واقع النفوس الكامن خلف ستار القلوب وخبايا العقول. إنها تخاطب مشاعر المنكسرة قلوبهم تحت وطأة رزايا الواقع.

أما شيرين فكري؛ فأعماق النفوس هي دور الأزياء التي تفضلها، ولون المشاعر المكسورة يستهويها، والمقاسات الخانقة على النفوس هي موضات أبطال أعمالها القصصية، والحب المهزوم ماركة تفضح أبطال الرواية مهما تجمّلوا!

إن شيرين فكري روائية صاعدة، أرى أن مستقبلها سيكون كبيرا في الكتابة الروائية؛ فلديها شغف الكتابة القصصية، وسعة الخيال الرائع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى