الإمام محمد عبده.. عبقري الإصلاح الذي قال له الأفغاني: أي أبناء الملوك أنت؟

كتبت / ليا مروان

“تكلَّم العرابيون، وتكلَّم دعاة التوفيق، ثم تكلَّم الشيخ محمد عبده، فأصر على رأيه أن العرابيين باندفاعهم سيجرون على البلاد الاحتلال الأجنبي، فأخفقت المساعي للصلح والتوفيق، فلما استفحلت الحركة العرابية وضرب الأسطول الإنجليزي الإسكندرية، انضم محمد عبده للثورة العرابية، لأن ما كان يخشاه قد حدث بالفعل، ولم يسعه إلا أن يكون مع قومه -ولو كانوا مخطئين- على الغريب”.

هكذا ينقل الكاتب المصري الراحل عباس محمود العقاد تفاصيل ما جرى إبان الثورة العرابية (1879-1882) وكيف فرضت الظروف على الشيخ محمد عبده -الذي تحل ذكرى وفاته اليوم 11 يوليو/تموز- أن ينضم لها بعد أن كان معارضا.

في كتابه عن الإمام محمد عبده بعنوان “عبقري الإصلاح والتعليم” يقول العقاد إن محمد عبده كان ثائرا، لكنه لم يكن من أنصار الزعيم أحمد عرابي، بل كان على خلاف معه في برنامجه العملي، ولجأ لتأييد العرابيين فقط من أجل توحيد الصفوف ضد المحتل الأجنبي، لاسيما بعد لجوء الخديوي توفيق للإنجليز.

احتلال ومحاكمة

توالت الأحداث، فضرب الإنجليز مدينة الإسكندرية، وانحاز الخديوي للمحتل، ودارت المعركة بين المصريين والإنجليز في التل الكبير، ولم يلبث أن دخل الإنجليز القاهرة في سبتمبر/أيلول 1882، وتمت محاكمة عرابي ورفاقه، ومن ساعدوه ومنهم الشيخ محمد عبده، ليتم اتهامه بالتآمر ونفيه خارج البلاد، فاختار بيروت ملجأ للنفي، وسافر إليها عام 1883.

كتب محاميه واصفا رحيل عبده عن مصر “ودعت في الظلام محمد عبده الذي ذهب أخيرا منفيٍّا عن القطر المصري مدة 3 سنوات، وإذا جاز لمصر أن تسير منفردة أو يكون لها بداءة خير يوما من الأيام، فإنها لا يسهل عليها الاستغناء عن مثل الشيخ محمد عبده العالم المحرر”.

في المنفى

أقام الإمام في بيروت لنحو عام، حتى أرسل له أستاذه جمال الدين الأفغاني يطلب منه السفر إليه في باريس، فاستجاب له واشتركا معا في إصدار مجلة “العروة الوثقى”.

أزعجت المجلة الإنجليز رغم أنها تصدر من غرفة متواضعة فوق أحد منازل العاصمة الفرنسية، لاسيما مع توالي مقالات الإمام التي تدعو العالم الإسلامي لمناهضة الاستعمار. لكن بعد صدور 18 عددا، استطاع المستعمر إسكات صوتهم لتحتجب “العروة الوثقى” وليعود الإمام إلى بيروت مرة أخرى.

وساطة للعودة

في كتابه “المنهج الإصلاحي للإمام” يقول المفكر الإسلامي محمد عمارة إن عبده سعى لدى أصدقائه كي يساعدوه على العودة إلى مصر، وكان تلميذه سعد زغلول يلح على الملكة نازلي لاستخدام نفوذها عند اللورد كرومر للعفو عنه، حتى اقتنع كرومر بأن الإمام لن يعمل بالسياسة وسيقتصر نشاطه على العمل التربوي والدعوي والثقافي والفكري، فاستخدم نفوذه لإصدار العفو من الخديوي توفيق، وعاد الإمام لمصر عام 1889.

مفتي مصر

رفض الخديوي توفيق عمله في التربية، ولما مات أقنع الإمام خليفته الخديوي عباس حلمي الثاني بأن يعاونه في إصلاح المؤسسات التعليمية والاجتماعية الثلاث: الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية.

عين الإمام مفتيا للديار المصرية عام 1899، وكانت فتاويه تميل للتسامح واستقلال الرأي والبعد عن التقليد والملاءمة بين روح الإسلام ومطالب الحياة العصرية، وساهم في تجديد الخطاب الديني وأثارت أفكاره جدلا واسعا.

ومن ضمن فتاويه جواز التصوير الفوتوغرافي والسماح للمسلم بارتداء الزي الأوروبي، مما تسبب في حالة من الجدل بين العلماء.

ورأي الإمام أن المسلمين بلغوا حالة من التخلف والتردي والضعف تدعو إلى الأسى والحزن، وأن المحاولات الإصلاحية التي سبقته لإصلاح حال المسلمين لم يكتب لها النجاح الكامل، وأن الإصلاح السياسي لا يمكنه وحدة القيام بعبء النهوض.

كما رأي أن تحرير الفكر من التقليد والأخذ بالسلفية المستنيرة في فهم الدين، واستخدام العقل في إقامة صداقة وطيدة بينه وبين العلم، هو جوهر السياسة والإصلاح السياسي، كما فهمه ودعا إليه.

رحيله

ساءت علاقة الإمام مع الخديوي عباس يوما بعد يوم، وتمت تشويه صورته في الصحف أمام الشعب، حتى قدم استقالته من الأزهر عام 1905.

وفي 11 يوليو/تموز 1905 فارق الإمام الحياة في سن 56 عاما “عن حياة فكرية خصبة، وجهود في التربية والإصلاح، ومواقف -تجسد عظمة الإنسان المصري العربي المسلم وكبرياءه- لا يمكن أن تموت” بحسب وصف الدكتور عمارة.

قالوا عنه

لشدة اعتزازه بنفسه والثقة المطبوعة على وجهه، كان الأفغاني يقول لتلميذه الإمام محمد عبده: قل لي بالله.. أي أبناء الملوك أنت؟!

وفي مقدمة كتابه “عبقري الإصلاح والتعليم” وصفه العقاد بأنه “أولى أئمة العصر أن يؤتم به المقتدى فيما اضطلع به من أمانة العقيدة، وأمانة الفكر، وأمانة الخير، وأمانة الحق، وأمانة الإخلاص للخلق والخالق، في كل ما يتولاه الإنسان -الجدير باسم الإنسان- من نية وعمل، ومن سر وعلانية”.

قال عنه إسماعيل سراج الدين مدير مكتبة الإسكندرية السابق إن الإمام رائد فذ من رواد الإصلاح والتنوير، وعلم من أعلام الدعوة إلى التجديد على أكثر من صعيد، ليس في مصر وحدها وإنما في العالم العربي والإسلامي، ولا تزال أغلبية أفكاره واجتهاداته تنبض بالحياة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى