400 طبيب هاجروا وكورونا ليس وحده السبب.. نفتح ملف انهيار النظام الصحي في لبنان

منذ نهاية العام 2019 تحولت حياة اللبنانيين إلى مجموعة من المآسي، سياسيا واقتصاديا ومعيشيا وحتى صحيا.

والمفارقة في لبنان -برأي مراقبين- أن كل الأزمات مترابطة ببعضها، ويصعب العمل على حل واحدة دون الأخرى، وهذا الواقع تجلى في القطاع الصحي الذي لم تعصف به جائحة كورونا فحسب كما سائر دول العالم، وإنما يتهاوى نتيجة مجموعة من الأزمات تبدأ بالانهيار الاقتصادي، وتمر بانفجار مرفأ بيروت، وصولا إلى العجز عن تأمين المستلزمات الطبية والأدوية واستنزاف الطواقم الصحية.

في هذا التقرير تستعرض الجالية العربية الأسباب والأرقام التي تكشف عن تعرض النظام الصحي في لبنان لخطر فعلي قد يضاعف تهديد صحة اللبنانيين ما لم يتم تداركه.

 

1. كورونا واستنفاد المستشفيات

تحت شعار “التقاط أنفاس القطاع الصحي” دخل لبنان مرحلة “الإقفال الشامل” منذ مساء السبت 14 نوفمبر/تشرين الثاني حتى نهاية الشهر الجاري، وذلك بقرار من الحكومة، بعد أن سجلت الإصابات بفيروس كورونا أرقاما قياسية.

وقد تخطى عدد الإصابات في البلاد عتبة 100 ألف إصابة، وتم تسجيل نحو 839 وفاة بحسب إحصاءات وزارة الصحة، كما أن لبنان -الذي يبلغ عدد سكانه نحو 6 ملايين نسمة- بات يسجل بمعدل أسبوعي نحو 11 ألف إصابة بالفيروس.

وفي السياق، يشير رئيس لجنة ‏الصحة البرلمانية النائب عاصم عراجي إلى أن التوجه للإقفال العام هذه المرة يهدف لإفساح المجال أمام القطاع الصحي لاستعادة جاهزيته بعد أن استنفد جميع أسرته المخصصة لمرضى كورونا، إذ يجري العمل على رفع عدد أسرة العناية الفائقة من 300 إلى 600 سرير، ومضاعفة عدد أسرة العزل لنحو 1200 سرير، معتبرا أن عدد الأسرة المخصصة لكورونا (نحو ألف سرير) ما زال غير كاف.

ويلفت عراجي -في تصريح للجزيرة نت- إلى أن فيروس كورونا كان ضربة قاضية للنظام الصحي بعد توالي تداعيات الأزمة الاقتصادية، وبعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020 الذي ألحق الخراب بعدد من المستشفيات، ودمر مستشفيي الروم والجعيتاوي اللذين يعملان حاليا بإمكانيات محدودة.

1600 طبيب وممرض
حالة “التعب الشديد” التي يشكو منها القطاع الصحي يربطها عراجي بإصابات كورونا التي طالت الجسم الطبي، إذ يوجد حاليا نحو 20 طبييا لبنانيا في العناية الفائقة، وأكثر من 50 طبيبا بالحجر المنزلي بعد تعافي آخرين، إضاف إلى إصابة أكثر من 1100 ممرض وممرضة، مشيرا إلى أن محصلة إصابات الأطباء والممرضين بالفيروس منذ مارس/آذار 2020 حتى اليوم تجاوزت 1600 إصابة.

وقبل مارس/آذار 2020 كان الوضع أفضل على مستوى كورونا، إذ لم يتجاوز 4 آلاف إصابة وفق عراجي، لكن أعداد المصابين تضاعفت سريعا بعد انفجار المرفأ، والذي ساهم بتخالط اللبنانيين وتشرد آلاف العائلات.

ويشير عراجي إلى أن لبنان يعتمد فقط على نحو 28 مستشفى خاصا لاستقبال مرضى كورونا من بين 130 مستشفى خاصا، مقابل 31 مستشفى حكوميا تعمل جميعها على استقبال المصابين بالفيروس.

ويرى النائب أن واحدة من عورات النظام الصحي تتجلى بعدد الأسرة التي يبلغ عددها الإجمالي 14 ألف سرير في كل لبنان، من بينها 30% فقط تعود للمستشفيات الحكومية، مقابل 70% تعود للمستشفيات الخاصة التي لديها في ذمة الدولة أكثر من 150 مليار ليرة لبنانية (100 مليون دولار وفق السعر الرسمي).

ويذكر عراجي أن لبنان تلقى دعما صحيا من بعض الدول المانحة التي أرسلت مستشفيات ميدانية في أغسطس/آب الفائت لمعالجة مصابي انفجار المرفأ، لكنها لم تكن مخصصة لمرضى كورونا.

 

2. أزمة الاستيراد

لكن أزمة النظام الصحي في لبنان لا تقتصر -برأي خبراء- على أوضاع المستشفيات وتداعيات كورونا فحسب، بل تتعداها لعقبات تواجه آلية استيراد المستلزمات الطبية والأدوية، بسبب القيود المصرفية المفروضة على تأمين سيولة الاستيراد منذ أكثر من عام.

وقد بدأت الأزمة تتجلى بفقدان أصناف دوائية، من بينها أدوية لمرضى القلب والسرطان، كما أن المستشفيات الجامعية لوحت أكثر من مرة بأنها ستعتذر عن استقبال المرضى، لعدم قدرتها على توفير المستلزمات الطبية والجراحية.

وفيما يستمر المصرف المركزي بتأمين دعم تكلفة استيراد الأدوية والمستلزمات الطبية وفق سعر الصرف الرسمي للدولار (1507 ليرات) تتزايد المخاوف من رفع الدعم عن مختلف السلع الأساسية بسبب استنزاف ما تبقى من احتياط العملة الصعبة لدى المركزي.

وهنا، تؤكد نقيبة مستوردي المستلزمات الطبية في لبنان سلمى عاصي أن أزمة الاستيراد تتفاقم يوما بعد آخر نتيجة التعاميم التي تصفها بـ”غير المدروسة” التي يصدرها المصرف المركزي.

وقالت للجزيرة نت إن الأمور باتت أصعب بعد أن فرض على الشركات المستوردة سداد المبالغ المتوجبة عليها للمصرف بالليرة اللبنانية نقدا لا بموجب شيكات مصرفية أو حوالات.

 

هل تتم المتاجرة بمآسي اللبنانيين؟
وتعتبر عاصي أن تعثر الاستيراد “هو ما يقود النظام الصحي إلى السقوط”، ولا سيما أن لبنان لا يصنّع شيئا في هذا المجال، ويستورد 100% من المستلزمات الطبية، وكان في السنوات السابقة يتكبد نحو 400 مليون دولار لتغطية تكلفتها في ظل عمل 126 شركة لبنانية في قطاع استيراد المستلزمات الطبية.

وأضافت أن لدى الشركات المستوردة للمستلزمات الطبية أكثر من 4 ملايين دولار محتجزة لدى مصرف لبنان، وقيمة الفواتير القديمة منذ نحو 4 أشهر تبلغ نحو 52 مليار ليرة لبنانية (35 مليون دولار وفق السعر الرسمي) تعجز عن تأمينها نقدا.

بالمقابل، يدافع مسؤول ملف الدعم في مصرف لبنان المركزي نعمان ندور قائلا إنه لولا سياسات المصرف التي يعتبر أنها أمنت استمرارية دعم تأمين الدواء والمستلزمات الطبية بأسعار مقبولة نتيجة تعدد أسعار الدولار في السوق الموازية لكانت المستشفيات أغلقت أبوابها ولكان اللبنانيون عاجزين عن تأمين تكلفة علاجهم.

واتهم ندور عبر الجالية العربية مستوردي الأدوية والمستلزمات الطبية “بالاستثمار في مأساة النظام الصحي”، مذكرا بأن أصحاب هذه الشركات هم تجار في الأصل و”يحاولون جني الأرباح الطائلة من مختلف الجهات مقابل تشويه سمعة المركزي” كما قال.

وأشار إلى أن المركزي دفع هذا العام نحو مليار دولار لتغطية نفقات المستلزمات الطبية والأدوية، مؤكدا أن لبنان يستورد للقطاع الصحي كميات ضخمة، متسائلا “لماذا لا نشك بعبور الأدوية والمستلزمات الطبية خطوط التهريب المفتوحة مع الدول المجاورة كي تستفيد الشركات بتجارتها من فرق العملة؟”.

 

3. هجرة الأطباء

وإذا كان النظام الصحي يدفع ثمن المشاكل بين الشركات المستوردة والمصرف المركزي إلا أنه يتعرض بالمقابل لنكسة معنوية ولوجستية بعد عقود حمل فيها لبنان لقب “مستشفى الشرق” نظرا لكفاءاته الطبية.

وفي هذا الإطار، يكشف نقيب الأطباء اللبنانيين شرف أبو شرف عن أن الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الأطباء أدت إلى تدهور أوضاعهم، مما انعكس سلبا على النظام الصحي رغم أن الأطباء لم يتخلفوا عن معالجة مرضى كورونا، مذكرا بأنهم عالجوا في ليلة واحدة يوم انفجار المرفأ أكثر من 6 آلاف جريح.

والحدث الذي يصفه أبو شرف بالخسارة الفادحة للبنان في ظل ظروفه الصعبة هو هجرة نحو 400 طبيب في الأشهر الماضية، لافتا إلى أن هناك مئات آخرين يحضرون أوراقهم للهجرة بعد أن وجدوا بكفاءاتهم فرص عمل كثيرة في الخارج.

وقال أبو شرف للجزيرة نت إن مداخيل الأطباء صارت زهيدة بعد انهيار الليرة، وإن الدولة لا تدعمهم، وبعضهم يعجزون عن تأمين أبسط الحاجات الحياتية، لأن المصارف تحتجز مدخراتهم أيضا.

وأشار إلى أن لبنان يضم نحو 15 ألف طبيب، ويخشى من هجرة كفاءاته الطبية، ولا سيما أن معظمهم من الأساتذة الجامعيين، مما يعني أن تداعيات خسارتهم ستنعكس حكما على طلاب الطب ومستوى الخدمات الطبية.

ويذكر أبو شرف أن الأطباء دفعوا مؤخرا ثمنا باهظا بأرواحهم وأجسادهم، إذ توفي 5 أطباء لبنانيين بفيروس كورونا، كما أصيب أكثر من 20 طبيبا بجروح أثناء انفجار المرفأ، وأن 3 من بينهم أصيبوا بعيونهم ولن يزاولوا المهنة من جديد.

 

4. مأساة الممرضين

ما يصيب الأطباء في لبنان ينسحب على العاملين في قطاع التمريض أيضا، حيث يضم هذا القطاع نحو 16 ألف ممرض وممرضة (يعمل من بينهم 9 آلاف فقط)، وهم يعملون “باللحم الحي” وفق وصف نقيبة الممرضين والممرضات ميرنا ضومط للجزيرة نت.

وتشير ضومط إلى أن الممرضين يواجهون أزمة غير مسبوقة في تاريخ عملهم، مما يضع المستشفيات في وضع حرج، لأن نسبة كبيرة من الممرضين والممرضات يتعرضون للصرف التعسفي من وظائفهم، كما أن قيمة رواتبهم الشهرية صارت أقل من 150دولارا.

وبحسب نقيبة الممرضين، فإن عددا كبيرا من المستشفيات تلجأ لطرد ممرضيها مقابل تسليم كل ممرض يعمل لديها أكثر من 12 مريضا، تخفيفا لمصاريفها على حساب صحة المريض والممرض.

وبحسب أرقام النقابة، فإن 49% من ممرضي لبنان هم من حملة الشهادات الجامعية وليس المهنية، ويفتشون عن فرص للهجرة، ومن بينهم نحو 500 ممرض وممرضة هاجروا مؤخرا بالفعل.

وتتوقع ضومط تضاعف أعداد الممرضين المهاجرين بوتيرة سريعة “لأنهم فقدوا أمل بناء مستقبل في لبنان بعد أن خسروا 6 ممرضات في انفجار المرفأ، وهناك ممرضة توفيت أخيرا بكورونا”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى